أخبار

كيف تفيد الخوارزميات الحاسوبية في فهم مسببات المرض النفسي؟

نشرت بتاريخ 17 يونيو 2024

في هذا الحوار، نتحدث إلى توبياس هاوزر، مدير مختبر الطب النفسي الحاسوبي المرتبط بالنمو الذي يتبع جامعة توبنجن، في ألمانيا، ومركز الطب النفسي الحاسوبي وأبحاث الشيخوخة التابع لكلية ماكس بلانك الجامعية في لندن، وهو الحائز على جائزة اتحاد جمعيات طب الأعصاب الأوروبية ودوريتها الرسمية «يوروبيان جورنال أوف نيوروساينس» لشباب الباحثين FENS-EJN Young Investigator Prize لعام 2024. تهدف أبحاثه إلى تكوين فهم أفضل للآليات العصبية الحاسوبية التي تنطوي عليها عمليات التعلُّم وصنع القرار، مع التركيز على دورها في نشوء الاضطرابات النفسية.

يؤانِّس باكويانِّس

ما سر اهتمامك بمرحلة المراهقة في أبحاث الصحة النفسية؟

المراهقة فترة مثيرة في حياة كلٍّ منا، فيها تقع أحداث كثيرة في غضون سنوات قليلة. فمع التغيُّرات الهرمونية التي تعتري الجسم في مرحلة البلوغ، يمرُّ المراهقون بمرحلة انتقال من التعليم المدرسي إلى سوق العمل أو التعليم الجامعي. وليس هذا فحسب، بل يتعين عليهم في تلك المرحلة أيضًا اكتشاف أنفسهم، واختيار اتجاههم في الحياة. وكلُّها خطوات عظيمة الخطر، يتحدَّد على أساسها شكل الحياة. واكتساب هكذا استقلال من شأنه أن يُورث النفسَ شعورًا بالحرية، غير أنه يمكن أن يأتي كذلك مصحوبًا بالكثير من الاحتكاكات، مع الأسرة أو المجتمع ككل.

من الأهمية بمكان أن نفطن إلى أن هذه التغيرات جميعها تحدث في إطار حالةٍ من النضج الدماغي المستمر. ذلك أن مخ المراهق يمرُّ بعملية إعادة تنظيم كبرى، ولا تكون الأنظمة الدماغية المسؤولة عن الملَكات الإدراكية قد اكتمل نضجها بعد. وصحيحٌ أن هذا قد يُصعِّب من اتخاذ قرارات التخطيط على المدى البعيد، إلا أنه قد يمثِّل فرصة كذلك، بالنظر إلى ما يمتاز به المراهقون من مرونة وخفة حركة، تجعلانهم قادرين على التكيُّف مع الظروف المتغيرة.

فإذا أتينا إلى أبحاث الصحة النفسية، سنجد أن لمرحلة المراهقة أهمية خاصة، بالنظر إلى أنها مرحلة يرتفع فيها خطر الإصابة بالأمراض النفسية والعقلية. ونحن نعلم أن قرابة 75% من جميع الاضطرابات النفسية تظهر قبل مرحلة البلوغ، وأن فترة المراهقة، على وجه التحديد، يرتفع فيها خطر الإصابة بالعديد من هذه الاضطرابات. نريد أن نقف على السبب الذي يُعزى إليه ارتفاع خطر التعرُّض للأمراض النفسية على هذا النحو إبَّان فترة المراهقة. ومن أجل ذلك، نستعين بالتصوير العصبي والنمذجة الحاسوبية للبحث في مسارات النمو في هذه المرحلة، وكيف أنها ربما تكون مختلفةً لدى الأشخاص الذين يُصابون لاحقًا بالاضطرابات النفسية. فإذا أمكن الوقوف على الأخطاء أو الانحرافات التي إن حدثت في أثناء نمو الدماغ قاد ذلك إلى الإصابة بمرض نفسي، فربما نستطيع عندئذٍ أن نتدخَّل مبكرًا، ونبتكر من الوسائل الوقائية ما يحُول دون ظهور هذه الاضطرابات.

 

كيف للأساليب الحاسوبية أن تسهم في فهم طريقة صُنع القرار؟

لا يوجد شيء في حياتنا إلا وينطوي على صورةٍ أو أخرى من صور اتخاذ القرار. فنحن نتخذ قراراتٍ كثيرة جدًا كل يوم؛ بدءًا من القرارات الصغيرة، مثل الاختيار بين أنواع القهوة، حتى القرارات التي من شأنها أن تغيِّر حياة الشخص برمَّتها، كأن يقرر إن كان سيستمر في عمله أم ينشُد عملًا آخر. نستعين بالنماذج الحاسوبية من أجل فهم كيف يتخذ الإنسان هذه القرارات، وكيف ولماذا تختلف هذه القرارات من شخصٍ لآخر. وهكذا، تساعدنا النماذج الحاسوبية على تتبُّع المعلومات التي يأخذها الأشخاص في الحسبان، وطريقة التمييز بين المزايا والعيوب. كما أنها تتيح لنا تقدير حجم ما يُجريه الأفراد من تخطيط مُسبَق، وما إن كانوا يأخذون بعين الاعتبار الارتباطات المعقدة.

ولما كان الأمر كذلك، فيمكن القول إن النماذج الحاسوبية تحظى بأهمية كبرى في هذا المضمار، لثلاثة أسباب: أوَّلها أن البشر يختلفون فيما بينهم في طريقة صُنع القرار، والخوارزميات تُعيننا على فهم السبب؛ وثانيًا، فاعتمادًا على هذه المهام والخوارزميات، يمكننا دراسة التراكيب والوظائف الدماغية المعقدة، مثل وظائف الفص الجبهي، أو النقل العصبي الدوباميني؛ أما ثالث هذه الأسباب، فهو أننا نعلم أن الأشخاص الذين يعانون اضطرابات نفسية عادةً ما يسلكون مسلكًا مختلفًا في عملية صنع القرار. وهكذا، فباستخدام أساليبنا المنهجية، نستطيع أن نقف بدقة على الآليات الإدراكية والعصبية التي تقودهم إلى اتخاذ قرارات مختلفة.

 

ما التحديات التي تعترض الطب النفسي الحاسوبي؟ وهل لديك نصيحة بعينها تودُّ أن تُسديها إلى باحثي الطب النفسي أو غيرهم من الباحثين الذين يفكرون في توسيع نطاق عملهم البحثي بحيث يشمل نمذجة حاسوبية؟

طب النفس الحاسوبي مجال مثير حقًا، وقد ثبَّت أقدامه على مدار العقد الماضي. عندما التحقتُ ببرنامج الدكتوراه، لم يكن ثمة شيء يسمَّى طب نفس حاسوبيًا بعد. أما الآن، فلدينا مؤتمر سنوي مخصَّص حصرًا لهذا الموضوع (هو مؤتمر طب النفس الحاسوبي، المقرر انعقاده في شهر يوليو المقبل بولاية مينيسوتا الأمريكية). والتحدي الذي أرى أنه يواجه الكثيرين من زملائي العاملين في الحقل الإكلينيكي هو أن طب النفس الحاسوبي يُعد مجالًا شديد التعقيد منهجيًا. فهو يتطلّب امتلاك خبرة معتبرة في النمذجة الحاسوبية، أو التصوير العصبي، أو فيهما معًا. وهكذا، فإن الجمع بين الخبرة الإكلينيكية، من ناحية، والإلمام بالمسائل الحاسوبية أو المتصلة بالتصوير العصبي، من جهة ناحية، يمثل تحديًا حقيقيًا. في مجموعتنا البحثية، نسعى إلى التغلُّب على هذا التحدي بالحرص على أن يكون الفريق متعدد التخصصات إلى حدٍّ بعيد، ويتعاون بعضهم مع بعض على نحوٍ وثيق، بحيث يتسنَّى لكل عضوٍ في الفريق أن يتعلَّم من خبرة الآخرين.

أما هؤلاء الذين يرغبون في أن يسلكوا طريق طب النفس الحاسوبي، فنصيحتي لهم أن يتعاونوا مع باحثين لديهم باع في هذا الميدان. والحقُّ أنني رأيتُ الكثير من الشراكات المثمرة بين الإخصائيين الإكلينيكيين وخبراء النمذجة، أسهم التعاون بينهم في إسراع وتيرة التقدم في المجال.

 

متى يكون لدينا نموذج حاسوبي قادر على الفحص النفسي، أو توقُّع الإصابة باضطرابات نفسية؟

يؤسفني أن أقول إنني لا أتوقع الوصول إلى مثل هذا النموذج خلال السنوات القليلة المقبلة. ثمة الكثير من العقبات التي يتعيَّن تذليلها أولًا. نعرف، على سبيل المثال، أن العوامل التي تسهم في ظهور الاضطرابات النفسية كثيرة ومتعددة. فإذا كان الأمر كذلك، فكيف نجمع كل هذه العوامل المساهِمة، والتفاعلات التي تتمُّ فيما بينها؟ وتحدٍّ ثانٍ كبير في هذا المجال يتمثل في أننا نفتقر في أكثر الأحايين إلى حقائق ثابتة لا ريب فيها، بحيث يمكن أن نبني عليها نماذجنا. لا نعرف على وجه التحقيق إن كان شخصان يحملان التشخيص نفسه يعانيان في واقع الأمر من المشكلة العصبية الإدراكية نفسها، وما إن كانت أسباب الإصابة بالاضطراب النفسي متمايزة بينهما أشدَّ التمايُز، وإن بدا على المستوى النظري المجرَّد أنهما يحملان أعراضًا إكلينيكية متشابهة.

ولا ننسى التحديات العملية، وهي أكثر بكثير. فإذا قصدنا إلى التنبُّؤ بكيفية ظهور الاضطرابات النفسية، فنحن بحاجة إلى جمع مجموعات بيانات طوليّة ضخمة، ونسبة معتبرة منها تخص مشاركين يعانون اضطرابًا نفسيًّا بعينه. وعلى الرغم من أننا نجمع الآن بيانات رائعة حول المسائل المتصلة بالنمو، كتلك التي تُجمع في إطار دراسة النمو الإدراكي في أدمغة المراهقين، فلم يتضح بعدُ إنْ كانت هذه البيانات من الضخامة بحيث تمكِّننا من تتبُّع ظهور الاضطرابات النفسية الأقل شيوعًا، مثل الوسواس القهري (OCD). وهذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدلُّ على أننا إن أردنا دراسة الأمراض النفسية الأقل شيوعًا من غيرها، فلعلَّنا بحاجة إلى عيّنات مخصصة لبحث هذه الأمراض، على أن تكون خطورة الإصابة بها في هذه العينات عالية، من أجل الخروج بإجابات عن هذه الأسئلة المتخصصة.

 

أنفقتَ من مسيرتك البحثية سنواتٍ عديدة في السعي وراء فهم اضطرابات النمو العصبي والاضطرابات العصبية الإدراكية، مثل قصور الانتباه وفرط الحركة (ADHD) والوسواس القهري. من واقع خبرتك، كيف ترى التعامل مع الأشخاص الذين يعايشون هذه الاضطرابات عند البت في الطلبات التي يتقدمون بها للحصول على مِنَح؟ هل تراعي التنوُّع العصبي (وما إليه من صور التنوع) في مختبرك؟

أعتقد أن عنصر المعايشة، والتجربة المَعِيشة، سيكتسب أهميةً أكبر في شتى مناحي العملية البحثية. فجهات التمويل، مثل مؤسسة «ويلكوم» Wellcome، والمبادرات الجديدة، على شاكلة المركز الألماني للصحة النفسية1، تأتي في طليعة المؤسسات الحريصة على إدخال عنصر التجربة المَعِيشة في منظومتها. وما زلنا نستكشف الطريقة المثلى لإشراك الأشخاص الذين يحملون هذه التجربة في ميدان البحث.

وفي مختبرنا، عمدنا إلى تجربة العديد من الأساليب المختلفة في هذا الصدد، وكان لبعضها أثر ملموس على ثقافة العمل في المختبر، وكذا على طريقة تعاملنا مع التجربة المَعِيشة لدى هؤلاء الأشخاص. ومن أمثلة ذلك، مشروع انتهينا منه مؤخرًا، تموِّله مؤسسة «ويلكوم»، يحمل اسم «الوسواس القهري والمخ». أُنشئ هذا المشروع بهدف التصدي للانفصال الواضح ما بين أبحاث علم الأعصاب التي تتناول الوسواس القهري، وبين الأشخاص الذين يعايشون هذا الاضطراب النفسي. وقد رأينا مرارًا وتكرارًا كيف أن أبحاث الدماغ التي نجريها لم تكن تصل إلى هؤلاء الأشخاص، وكنا نتساءل عن السبب. ومن أجل ذلك، وضعنا أيدينا في أيدي مسؤولي التفاعل مع الجمهور بكلية لندن الجامعية، بالمملكة المتحدة، واثنتين من الجمعيات الخيرية المعنية بقضية الوسواس القهري، هما جمعية «أوه سي دي آكشن» OCD Action، و«مؤسسة اضطراب الوسواس القهري الدولية» International OCD Foundation. وبمشاركة أشخاص يعانون من هذا الاضطراب، ناقشنا أولًا الموضوعات ذات الأهمية بالنسبة إلى هؤلاء الأشخاص. ثم كان أن شاركنا في إطلاق موقع إلكتروني، وإنتاج فيلم رسوم متحركة يشرح ما نعرفه عن دور المخ في نشوء وتطور الوسواس القهري، وذلك عبر سلسلة من وِرَش العمل والندوات المركَّزة. ومن الجدير بالذكر هنا، أنه لما كان الموقع والفيلم قد أُنتجا بالمشاركة مع أشخاص يعانون الوسواس القهري، غير أنهم يتنوَّعون فيما بينهم تنوعًا واضحًا، فقد أتحنا لأصحاب هذا الاضطراب على جملتهم مصدرًا يمكنهم الرجوع إليه. معنى ذلك أننا عندما تعاونّا تعاونًا وثيقًا مع مجتمع الوسواس القهري، خرجنا من هذا التعاون بمورد فريد، يُخرج أبحاث الدماغ التي تتناول هذا الاضطراب من أبراج الأكاديميا العاجيَّة، وينزل بها إلى أرض الواقع.

أصاب هذا المشروع من النجاح حظًا عظيمًا، شجَّعنا على التقدُّم لطلب مِنَح لتمويل دراسة الموضوعات التي تمسُّ الفئة التي تعاني من الوسواس القهري؛ وهي موضوعات على أهميتها لا نعرف عنها إلا أقل القليل. وما كنا لنقوم بذلك أيضًا لولا مشاركة ممثلين لهذه الفئة، يعايشون هذه التجربة معايشة واقعية. وثبت أنها تجربة مفيدة لتيسير التفاعل ما بين الباحثين، والخبراء الإكلينيكيين، وأصحاب الوسواس القهري.

ومع ذلك، فعلى الرغم من أن عنصر التجربة المعيشة جاء في المشاريع التي أسلفتُ ذكرها طبيعيًا وملائمًا لطبيعة هذه المشاريع، وكان له أثرٌ رائع، لا أعتقد أن جميع المشاريع تتطلَّب نفس المستوى من التجربة المعيشة. فالأبحاث الأساسية في بعض فروعها، مثلًا، ربما لا تحقق استفادةً كبرى من هذا التجربة المَعيشة، وفرضُه على هذه الفروع، لا لشيء إلا للرغبة في إدخال هذا العنصر في البحث، قد لا يعود بالنفع على البحث نفسه. وقد لاحظتُ كذلك توجُّهًا إلى الاستغناء عن آراء الباحثين ذوي الخبرة العريضة والمعرفة المتخصصة لصالح آراء الأشخاص الذين يعايشون تجربة الاضطراب النفسي، التي تعكس تجاربهم الخاصة، وقد لا تكون شائعة بين أقرانهم ممن يعاينون الاضطراب نفسه. وما أظنُّ إلا أن حوارًا فعَّالًا بين دائرتي البحث والتجربة المعيشة من شأنه أن يسهم في الالتقاء عند ممارسات متخففة من الوصم، تتيح لأصوات الأشخاص الذين يمرُّون بهذه التجارب أن تصل إلى أروقة البحث على أحسن ما يكون.

 

هل ترى أن الأبحاث التي تتناول الوسواس القهري أقل مما ينبغي؟ وهلا أطلعتَنا على تجربتك الخاصة في التعامل مع هذا الاضطراب النفسي؟

أعتقد أن من الضروري الاعتراف بأن الموارد في أبحاث الصحة النفسية لا تُخصَّص على نحوٍ متساو، وأن بعض الاضطرابات النفسية تحصل على تمويل أكبر من اضطراباتٍ أخرى أقل ظهورًا. يتضح هذا الاختلال بجلاء عند النظر إلى المبالغ التمويلية؛ وهو اختلال لا يبرره نسبة انتشار الاضطراب، أو شدَّته، أو أية عوامل أخرى. وأرى أننا إن أردنا الحديث عن التنوُّع في ميدان البحث العلمي، فحريٌّ بنا أن نتحدث أيضًا عن هذا الاختلال.

والوسواس القهري هو أحد هذه الاضطرابات المُهمَلة. فعلى الرغم من أنه يأتي رابعًا بين الأمراض النفسية الأكثر انتشارًا، نجد أن التمويل الموجَّه لدراسته لا يكاد يُذكر. وانعكاس ذلك على أرض الواقع أن باحثي الوسواس القهري لا تسنح لهم إلا فرصة محدودة لإجراء البحوث الخليقة بإحراز تقدُّم ملموس في هذا المضمار. وهذا، بدوره، يترك أثره السلبي على فهمنا لهذا المرض النفسي، ويقلص فُرَصَه في منافسة الاضطرابات النفسية الأكثر لفتًا للأنظار على موارد، هي بطبيعتها محدودة. وعليه، فإنني أرى ضرورة العمل على مقاومة هذا التوجُّه، وضمان أن تمثَّل هذه الاضطرابات النفسية المُهمَلة تمثيلًا وافيًا لدى جهات التمويل ودوائر صنع القرار.

لكننا، على الجانب الآخر، وبالنظر إلى أن مجال أبحاث الوسواس القهري مجال صغير نسبيًا، نلمس من باحثي هذا المجال تجاوبًا ودعمًا كبيرين. وهو أمرٌ رائع؛ لأن هذا يعني إمكان جمع باحثي الوسواس القهري بخلفياتهم المختلفة ليعملوا معًا، ويتعاونوا فيما بينهم تعاونًا وطيدًا يبلّغهم هدفًا مشتركًا.

 

حصلتَ على جائزة اتحاد جمعيات طب الأعصاب الأوروبية ودوريتها الرسمية «يوروبيان جورنال أوف نيوروساينس» لشباب الباحثين، ومن المقرر أن تلقي محاضرة خاصة في منتدى الاتحاد لعام 2024 في فيينا. هل تودُّ أن تُطلع قراءك على ملمحٍ عن هذه المحاضرة؟

أجل، إنه لشرفٌ عظيم أن فُزتُ بهذه الجائزة، وسنحت لي فرصة تقديم أبحاثي بالعاصمة النمساوية، فيينا. وفي اعتقادي أن اتحاد جمعيات طب الأعصاب الأوروبية (FENS) مؤسسة رائعة حقًا، لا تدخر وسعًا في سبيل دعم علم الأعصاب في جميع أرجاء أوروبا؛ ليس فقط لعقدها هذا المنتدى، ولكن أيضًا من خلال إسهاماتها في عمليات صنع السياسات وحشد الرأي. وهو ما يملؤني حماسةً وحبورًا، أن أتيحت لي فرصة عرض أبحاثي هناك.

وفي المحاضرة، سأقوم بجولة سريعة، أطوف فيها بأبحاثنا وعملنا في مجال الطب النفسي الحاسوبي المرتبط بالنمو. إنني أنظر باهتمام خاص إلى عرض هذا العمل وتقريبه من جمهور الاتحاد، بتنوُّعه الكبير. وأسعى كذلك إلى تيسير التواصل بين الكثيرين من الباحثين الذين يتبعون مناهج بحثية مختلفة، ويستعينون بنماذج بشرية وغير بشرية.

 

هل ثمة ندوات أو فعاليات علمية تودُّ التركيز عليها في المنتدى؟

لم أنظر إلى برنامج المنتدى بالعمق والتركيز الكافيين، إلا أنني متحمس لحضور الندوات العابرة للأنواع، لاسيَّما التي تتناول البشر وأنواعًا غير بشرية. ذلك أنني أؤمن بالأهمية الكبرى للحديث بين الأنواع، وبخاصةٍ عند الحديث عن الصحة النفسية. ففي البشر، يمكننا التعامل مباشرةً مع الأشخاص الذين يعانون اضطرابًا نفسيًّا ما. أما في حالة الحيوانات، فلدينا أساليب أفضل لدراسة وتسجيل وتغيير الآليات الدماغية التي يُحتمل أن ينطوي عليها الاضطراب. ومن هنا، فبالجمع بين الأبحاث التي تتناول أنواعًا مختلفة، يمكن أن نضع أيدينا طرف الخيط الذي يقودنا إلى فهم الآليات الدماغية التي تنطوي عليها الاضطرابات النفسية.

وبوصفي عضوًا في شبكة التميُّز التي تضم الاتحاد ومؤسسة «كافلي» Kavli، ويُشار إليها بشبكة «إف كيه إن إي» FKNE، يطيب لي أن أوجِّه عناية القراء إلى الفعاليات الرائعة التي نعتزم استضافتها في المنتدى، مثل الجلسة المخصصة لمناقشة الصحة النفسية في المؤسسة الأكاديمية الحديثة، وجائزة الإشراف المقدَّمة من الشبكة.

 

كيف ترى مستقبل الطب النفسي، والطب النفسي الرقمي بصفةٍ خاصة؟

تعاملتُ مع العديد من الأدوات الرقمية المختلفة، بدءًا بجمع البيانات في عينات كبيرة باستخدام تطبيقات الهواتف الذكية (مثل مشروع «براين إكسبلورر» Brain Explorer، الذي يقوم على فكرة العلم للجميع)، وصولًا إلى الاستعانة بالحلول التقنية الحديثة في ممارسات الطب النفسي2. وصحيح أنها يمكن أن تفيد في كثير من المساحات، لكني لا أعتقد أن الحلول الرقمية تقدم الإجابة عن جميع الأسئلة. يمكن لهذه الحلول أن تيسِّر جمع البيانات والوصول إليها، كأن تؤدَّى المهام الإدراكية في المنزل دون حاجةٍ للتوجُّه إلى المختبر. ولكن هناك الكثير من المعلومات الجهورية التي لا يمكن الوصول إليها عبر الوسائل الرقمية. ومن هنا، فإنني أعتقد أننا بحاجة إلى اتباع نهجٍ متعدد الأنماط، يجمع ما بين البيانات التي تُجمع في المقابلات الشخصية أو في المعمل، وبين البيانات التي تُجمع عبر الوسائل الرقمية. أرى، مثلًا، أن الجمع بين الفحوص الدماغية وجمع البيانات بالوسائل الرقمية سوف يثمر الكثير من الأفكار الجديرة بالنظر عن مساحة التداخل ما بين المخ، والصحة النفسية، والخبرات الحياتية اليومية.

doi:10.1038/nmiddleeast.2024.187


References:

1- Meyer-Lindenberg, A. et al. Nat. Mental Health 1, 153–156 (2023).

2- Habicht, J. et al. Nat. Med. 30, 595–602 (2024).