مقالات

كيف أدى تغير المناخ إلى ارتحال المزارعين في مصر؟

نشرت بتاريخ 24 يونيو 2024

تتنوع أنماط هجرة المناخ بين "الجبرية" و"الطوعية".. وتعزيز الوظائف الخضراء بديل إيجابي لمكافحة التدهور البيئي

هدير الحضري

تحمل الأبل جميع متعلقات الأسرة بما في ذلك العصي المنحنية التي تساعدهم على إقامة أكواخهم
تحمل الأبل جميع متعلقات الأسرة بما في ذلك العصي المنحنية التي تساعدهم على إقامة أكواخهم
Images of Africa Photobank / Alamy Stock Photo Enlarge image

لسنوات طويلة، اعتاد المزارع أحمد فريد البالغ من العمر 40 سنة زراعة البطيخ والطماطم في أرضه بمحافظة كفر الشيخ بدلتا مصر، لكنه قرر ترك زوجته وأولاده منذ ثلاث سنوات متوجهًا إلى أسوان لاستئجار أرض جديدة، بعدما أثر نقص المياه وتغيُّر الظروف المناخية على الزراعة داخل قريته.

وهذا العام، ومع حدوث موجات الحرارة المرتفعة غير المتوقعة، اختار "فريد" زراعة الفاصوليا في أسوان على أمل ألا تخسر زراعته، لكنه لم ينجُ مرةً أخرى من خسائر الحرارة الشديدة، والآن يفكر في الانتقال إلى الواحات أو المنيا لزراعة الخضراوات مثل الطماطم والباذنجان.

هكذا أجبرت الظروف المناخية الجديدة "فريد" على التنقل من منطقة إلى أخرى بحثًا عن أرض صالحة للزراعة لاستئجارها.

يقول "فريد" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": التنقل بين المحافظات مكلف ماديًّا ونفسيًّا؛ لأنني أحتاج إلى نقل معداتي الثقيلة، وفي كل مرة أغادر فيها أشعر بعدم الاستقرار؛ لأنني أترك جيراني وعائلتي، كما أن لديَّ العديد من معارفي ممن تركوا مهنة الزراعة وسافروا إلى الخارج بحثًا عن وظيفة أخرى بعدما أصبحت الزراعة غير مجدية ماديًّا!

وجهان لعملة واحدة

يمكن القول بأن "تغير المناخ والتنقل هما وجهان لعملة واحدة"، وهو الوصف الذي استخدمته دراسة أجراها المركز الدولي لتطوير سياسات الهجرة، وبرنامج "يوروميد للهجرة" بتمويل من الاتحاد الأوروبي في عام 2023، بعنوان "هل تغير المناخ دافعٌ للتنقل؟".

وتضمنت الدراسة خريطة لتوقعات التنقل بسبب تغير المناخ في مصر والمغرب وتونس، مشيرةً إلى أن "سكان المناطق الريفية هم الأكثر تعرضًا للتطلع إلى الانتقال بعد الأحداث المناخية بطيئة الحدوث".

ووفق الدراسة، تستضيف البلدان الثلاثة حوالي 80 مليون شخص من سكان الريف، بما في ذلك 62 مليونًا في مصر وحدها، وترتبط العلاقة بين المناخ والتنقل بالحصول على المياه العذبة؛ إذ يعاني المزارعون في المناطق الريفية من تناقُص مصادر المياه، ما يهدد بتعرض هذه البلدان للهجرة الجماعية من الريف.

"لقد دخلنا رسميًّا عصر الهجرة المناخية"، هذه هي العبارة التي استخدمتها المديرة العامة المنتخبة للمنظمة الدولية للهجرة إيمي بوب، خلال قمة المناخ الأفريقية في نيروبي في سبتمبر العام الماضي 2023، لوصف تأثير التغيرات المناخية على تنقلات السكان، داعيةً إلى مزيد من الاهتمام بهذه القضية.

وعالميًّا، توقع تقرير "جراوندسويل" الصادر عن البنك الدولي في عام 2021 أن هناك 216 مليون شخص سيتنقلون داخل بلدانهم بسبب تأثيرات تغير المناخ البطيئة الظهور بحلول عام 2050، كما يمكن لحوالي 105 ملايين شخص أن يصبحوا مهاجرين داخليين بحلول عام 2023.

الارتباط بالأرض

هذا الانتقال المدفوع بالمناخ ليس سهلًا على الإطلاق؛ إذ وجدت الدراسة أيضًا أن الأشخاص في المناطق المتأثرة بالمناخ لديهم ارتباط قوي بالأرض والهوية المحلية، إضافةً إلى الأعراف الاجتماعية المتعلقة برعاية الأهل، وكل هذه الارتباطات تؤثر على نوايا الهجرة.

 لذا، ذكر الأشخاص الذين تمت مقابلتهم في الدراسة أن "الهجرة تعني فقدان رأس المال الاجتماعي وشبكات الدعم، وهو مورد مهم لأولئك الذين يعيشون بالفعل في أوضاع غير مستقرة، وبالتالي فإن قرارات الهجرة تتأخر أو يُعاد النظر فيها، حتى في سياق سبل العيش المهددة بسبب المناخ".

Public Domain Enlarge image

تقول مرفت صدقي، أستاذ علم الاجتماع الريفي بمعهد بحوث الإرشاد بمركز البحوث الزراعية في مصر: من الصعب أن يغير المزارع المصري مهنته بسبب التغيرات المناخية وحدها، بل يحاول التكيف بأوجه مختلفة مثل البحث عن وسائل جديدة للزراعة، أو استئجار أراضٍ في مناطق قريبة من المياه، وقد يلجأ بعض المزارعين للسفر إلى الخارج بحثًا عن وظيفة أخرى، لكن لا يمكن تعميم الهجرة المناخية على كل محافظات مصر؛ لأن كل منطقة ولها تحدياتها وظروفها المناخية الخاصة.

وتضيف: دفعت التغيرات المناخية -التي نسميها "الكارثة الزاحفة"- كثيرًا من الشباب إلى العزوف عن امتهان الزراعة من الأساس والبحث عن مهن أخرى، لذا وجدنا أن أعباء الزراعة تُلقى على عاتق كثير من النساء اللاتي وجدن أنفسهن مسؤولات عن زراعة الأراضي، وبالتالي لجأن إلى زراعات الكفاف البسيطة وليس الزراعات الإستراتيجية.

وتبحث المراكز الزراعية المصرية عن حلول جديدة للتكيف مع آثار تغير المناخ، مثل استنباط أصناف جديدة مقاومة للحرارة ومتحملة للجفاف، واستخدام طرق ري جديدة وموفرة للمياه.

ووفق الدراسة، تشهد مصر والمغرب وتونس درجات عالية من الهجرة الداخلية، خاصةً أن ندرة المياه تسهم في تسريع عمليات التوسع الحضري، كما من المتوقع أن يؤثر فقدان الأراضي في مصر بسبب ارتفاع منسوب المياه في دلتا النيل المشهورة بالزراعة على 50% من المناطق الساحلية بحلول عام 2100، وعلى الرغم من أن هذه الخسارة تحدث تدريجيًّا، إلا أنها ستؤدي إلى تنقلات كبيرة للسكان.

تنقلات من الإسماعيلية ومرسى مطروح

وكشفت الشهادات التي جمعتها الدراسة أن "تنقل المزارعين في منطقة دلتا مصر ارتبط بانتشار الآفات نتيجةً لارتفاع درجات الحرارة، ومضاعفة استخدام المبيدات الحشرية، مما أدى إلى انخفاض خصوبة الأراضي من خلال تلوث المياه الجوفية".

كما تضرر المزارعون من انهيار محصول المانجو في عام 2021 في الإسماعيلية، ممّا دفع العديد من المزارعين الشباب إلى إعادة التوطن في المناطق الحضرية لمحاولة تعويض الخسائر الفادحة المتكبدة، مما يدل على الآثار العملية المترتبة على التنقل بسبب المناخ غير المتوقع، إضافةً إلى انتقال الفلاحين من منطقة مرسى مطروح في شمال مصر إلى القاهرة أو الجيزة على أمل العمل في مهن أخرى، بعدما دمرت درجات الحرارة المرتفعة والجفاف ومحاصيل العلف.

الزراعة الذكية مناخيًّا جزء من الحل

 في عام 2021، وقعت منظمة الهجرة الدولية في مصر شراكة مع المركز الدولي للبحوث في المناطق الجافة "إيكاردا"، بهدف تقديم طرق ذكية مناخيًّا لدعم المزارعين في الأراضي الجافة، خاصةً أن استعادة النظم الزراعية هي الخطوات الأولى لتمكين النازحين العائدين، وفقًا لوصف بيان المنظمة.

وذكر البيان المنشور على موقع المنظمة الدولية للهجرة في مصر أن "الزراعة تمثل حوالي 28% من جميع الوظائف في مصر، و55% في صعيد مصر، وتتأثر جميعها على نحوٍ متزايد بارتفاع معدلات الهجرة غير النظامية إلى الخارج، وهنا تبرز الحاجة إلى تعزيز الأساليب الزراعية المبتكرة، وخلق فرص العمل، وتحويل الزراعة التقليدية إلى إدارة أفضل للمياه في بيئة تعاني من ندرة المياه بشكل متزايد، ومحاولة إبطاء التصحر، وإعادة الأراضي المتدهورة إلى الاستخدام الزراعي الكامل".

يقول علاء حموية -الممثل الإقليمي لـ"إيكاردا"- في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": يهتم المركز بالعمل على دعم المحاصيل الإستراتيجية في مصر مثل القمح والفول؛ لأنها تمثل غذاءً أساسيًّا للسكان، ومن هنا جاءت فكرة دعم المزارعين لمواجهة التأثيرات المتزايدة لتغير المناخ، والتي لا تقتصر فقط على ارتفاع الحرارة، بل تشمل أيضًا انتشار الأمراض الجديدة التي تصيب النباتات.

وأضاف: إذا لم نحل مشكلات الزراعة فستزيد معدلات الهجرة المناخية، لذا عملنا على استنباط الأصناف المقاومة للجفاف، التي تستغرق أيضًا وقتًا أقصر في النمو، مما يتيح للمزارع زراعة محاصيل أكثر في السنة الواحدة، ودعمنا المزارعين بطرق ري موفرة للمياه، كما استنبطنا أصنافًا عالية الإنتاج، فعلى سبيل المثال، وفرت طريقة الزراعة على المصاطب التي طبقتها إيكاردا مع مراكز البحوث الزراعية 25% من المياه، وزادت الإنتاج 30%، وقللت هدر البذور بنسبة 30%.

أين يهطل المطر؟

في عام 2020، أصدرت المنظمة الدولية للهجرة ورقة حول العلاقة بين الهجرة وتغير المناخ في مصر، قالت فيها إنه من الأفضل فهم الهجرة الناجمة عن الظروف البيئية باعتبارها حركةً متواصلة، تتراوح بين الهجرة الجبرية والهجرة الطوعية، مع وجود مناطق رمادية بينهما.

وذكرت المنظمة أن 70% من المهاجرين الداخليين الذين تمت مقابلتهم في سياق مشروع "أين يهطل المطر؟" في دلتا النيل وفي الأحياء الفقيرة في القاهرة القديمة، قالوا إن تدهور الأراضي ونقص المياه من العوامل التي شكلت قرارهم بالهجرة، كما أضافت أن جزءًا من الحلول التي تقدمها هو تعزيز الوظائف الخضراء للشباب كبديل إيجابي للهجرة غير النظامية، ومحاولة مكافحة التدهور البيئي.

CAPMAS Enlarge image

وفي عام 2022، أعد إسلام البهلوان تقريرًا حول "تأثير تغير المناخ على التنقل في مصر" بالتعاون مع المنظمة الدولية للهجرة، وحلل فيه الآثار البيئية والاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بتغير المناخ والتنقل في مصر، ولم تُنشر النسخة النهائية من التقرير بعد.

يقول "إسلام" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": المزارعون من أولى الفئات المتأثرة بالتغير المناخي، ولكن تحديد دوافع التنقل أمرٌ معقد، وليس معتمدًا على دافع واحد فقط، لذا يمكن القول بأن تغير المناخ أحد العوامل ضمن عوامل أخرى متعددة ومتداخلة في البيئة المحيطة، قد تدفع المزارعين إلى التنقل.

ويضيف: في مصر لا توجد دراسات أو مشروعات إحصائية تقيس بشكل دقيق الروابط بين تغير المناخ والتنقل، لكن تغيُّر المناخ يضر بالزراعة من خلال عدة تأثيرات مباشرة من خلال الحرارة المرتفعة، وارتفاع مستوى سطح البحر، والظواهر المناخية المتطرفة، ونقص المياه، وكل هذه الظواهر تؤثر على إنتاج الغذاء، مما يؤثر بدوره على الدخل المادي وعلى سوق العمل، ويخلق في النهاية أشكالًا من التنقل والهجرة.

doi:10.1038/nmiddleeast.2024.195