أخبار

أسطورة مصرية قديمة قد تُصبح "حقيقة" كونية

نشرت بتاريخ 27 مايو 2024

تكشف دراسة جديدة عن رابط بين آلهة السماء والمَعْلم البارز في سماء الأرض.. مجرة درب التبانة

محمد منصور

أجرى الباحث عمليات محاكاة للسماء في
وادي الملوك والجيزة خلال ثلاث فترات متمايزة

أجرى الباحث عمليات محاكاة للسماء في وادي الملوك والجيزة خلال ثلاث فترات متمايزة


E. A. Wallis Budge, The Gods of the Egyptians, Vol. 2 (Methuen & Co., 1904).

Enlarge image

بالرغم من المعرفة الفلكية لقدماء المصريين التي سجلتها العديد من البرديات وجدران المعابد وأسقف المقابر، إلا أن أحد أبرز الموجودات السماوية غابت عن سجلات القدماء المصريين؛ إذ لم يجد العلماء أيّ دليل أو نص على اهتمام المصريين القدماء بمَعلم بارز في سماء الأرض ممثلًا في مجرة درب التبانة.

 

والآن، تكشف دراسة جديدة عن علاقة محتملة بين مجرة درب التبانة وإلهة السماء المصرية القديمة نوت.

 

ففي حين أن الدور الدقيق لدرب التبانة وأهميته في الثقافة المصرية القديمة لا يزال غير واضح، تشير إحدى الفرضيات المقنعة إلى أن هذه الظاهرة السماوية ربما كانت مُمثلةً في صورة "نوت".

 

مَن هي نوت؟

 

في قصة الخلق، يقدم القدماء المصريون أبسط صورة للعالم، تنقل بردية "نيس-مين" المحفوظة في المتحف البريطاني معتقدًا من معتقدات الفراعنة، في صدر البردية يقول الكاتب المجهول عن خلق الأرض: "توحدت مع كفي.. عانقت ظلي عناق محبة.. وصببت بذوري في فمي.. وبثثت من نفسي ذرية على هيئة شو وتيفنوت".

 

و"شو" هو إله الهواء عند قدماء المصريين، أما "تيفنوت" فهي إلهة الرطوبة، وتقول الأسطورة المصرية إن "شو" تزوج "تيفنوت" ورُزق منها بمجموعة من بينها "نوت" إلهة السماء و"جب" إله الأرض.

 

وفي كتاب "آلهة المصريين"، يقول عالِم المصريات الإنجليزي "والاس بدج": إن رمزية "نوت" توضح الارتباط العميق للمصريين القدماء بالسماء والعالم السماوي، كما تؤكد دمج هذه المعتقدات في ثقافتهم ودينهم وممارسات الحياة الآخرة، فسمات الحماية والرعاية التي تتمتع بها نوت جعلتها شخصية مركزية في الحياة اليومية وفي رحلة ما بعد الموت. لكن دور "نوت" لا يتعلق برحلة الموت فحسب.

 

أسطورة واضحة للعيان

 

تُعد مقبرة الملك "سيتي الأول" إحدى أعظم المقابر الملكية من حيث التصميم والزخرفة، إذ تمتد داخل الصخور إلى نحو 100 متر، وتضم تلك المقبرة رسومًا ونقوشًا بألوان زاهية، وتتميز باستخدام الألوان الدافئة.

 

زُينت أسقف المقبرة برسوم رائعة، إذ تظهر إلهة السماء "نوت" وهي تحني جسدها فوق التابوت، رسمت الأبراج الفلكية على جسد "نوت" بألوان زاهية، تضمنت رسوم السماء الشمالية الشرقية رسم المجموعة النجمية المعروفة باسم "الدب الأكبر" الذي يدور حول النجم القطبي، ورموز نجم الشعرى الذي يرمز إلى المعبودة "إيزيس".

 

تتحدث الباحثة "إيمان فتحي" -مدرس الرسم والتصوير بقسم التربية الفنية بكلية التربية النوعية بجامعة أسوان- في دراسة تحليلية عن الروابط الواضحة بين علم الفلك والأساطير في مصر القديمة.

 

وتقول "فتحي": استخدم المصري القديم المعرفة الفلكية؛ إذ كان كل تصور أسطوري عند المصريين القدماء مرئيًّا وموجودًا في الواقع وواضحًا للعيان.

 

من فكرة شبيهة بتلك التي طرحتها "فتحي"، انطلق الباحث "أور جراور"، وهو أستاذ مشارك في الفيزياء الفلكية في معهد علم الكونيات والجاذبية بجامعة بورتسموث، وأستاذ مشارك فخري في جامعة كوليدج لندن وباحث مشارك في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي.

 

ووفق الدراسة، كان المصريون القدماء علماء فلك متحمسين؛ إذ ربطوا أساطيرهم بالأجرام السماوية مثل الشمس والقمر وبعض النجوم والكواكب، ومن المحتمل أيضًا أن تكون درب التبانة -وهي سمة بارزة في سماء الليل- مدمجةً في إطارها الثقافي والأسطوري.

 

لكن لم يُعثر على اسم أو تصوير أو وصف واضح لدرب التبانة في النصوص أو الرسومات والزخارف المصرية القديمة، وفي أربعينيات القرن الماضي، قال علماء المصريات -دون دليل- إن النجوم التي تتبع كوكبة الكباش على سقف "مقبرة سننموت" تشير إلى درب التبانة.

 

أور جراور الأستاذ المشارك في الفيزياء الفلكية في معهد علم الكونيات والجاذبية بجامعة بورتسموث
أور جراور الأستاذ المشارك في الفيزياء الفلكية في معهد علم الكونيات والجاذبية بجامعة بورتسموث
Enlarge image

فحص "جراور" العلاقة بين نوت ودرب التبانة باستخدام برنامج القبة السماوية لمحاكاة سماء الليل المصرية القديمة، ومن خلال مقارنة مظهر درب التبانة بأوصاف نوت في النصوص القديمة، اقترح وجود صلة مجازية، مما يضع نوت ضمن المفاهيم المتعددة الثقافات لدرب التبانة.

 

ولتقديم أدلة مقنعة على ذلك الادعاء، أعاد "جراور" قراءة مخطوطات قديمة، من بينها كتاب "نوت" ونصوص متون الأهرام.

 

كتاب نوت

 

كتاب نوت، الذي كان عنوانه في الأصل أساسيات مسار النجوم، عبارة عن مجموعة مهمة من النصوص الفلكية المصرية القديمة التي تتعمق أيضًا في موضوعات أسطورية مختلفة، وتوفر هذه النصوص نظرةً ثاقبةً لدورات نجوم العشريات، وحركات القمر والشمس والكواكب، بالإضافة إلى الساعات الشمسية والأمور ذات الصلة.

 

وعنوان الكتاب مشتق من تصوير إلهة السماء نوت التي تتقوس فوق الأرض، بدعم من إله الهواء "شو"، وقد عُثر على هذه الرسوم التوضيحية في عدة نسخ من النص، أما الاسم الأصلي للكتاب، أساسيات مسار النجوم، فقد اكتشفته ألكسندرا فون ليفين في جزء من مخطوطة نُشرت في عام 2007، وكان أحد الموضوعات الرئيسية للكتاب هو مفهوم شروق الشمس باعتباره ولادةً أسطورية.

 

باستخدام هذه المصادر، أجرى "جراور" عمليات محاكاة لسماء الليل المصرية في وادي الملوك والجيزة خلال ثلاث فترات متمايزة: 1279 قبل الميلاد (السنة الأخيرة من حكم سيتي الأول)، و1880 قبل الميلاد (عندما تم تجميع الأساسيات)، و2300 قبل الميلاد (فترة الدولة القديمة).

 

وكشفت المحاكاة أن مظهر مجرة درب التبانة يختلف اختلافًا كبيرًا مع دوران الفصول وطوال الليل، فخلال أشهر الصيف (أبريل إلى أغسطس 1880 قبل الميلاد)، تمتد مجرة درب التبانة من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، وتعرض قسمها الأكثر سطوعًا بينما يتطلع المراقبون نحو مركز المجرة.

 

في المقابل، خلال أشهر الشتاء (أكتوبر إلى فبراير 1880 قبل الميلاد)، تمتد مجرة درب التبانة من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي، وتبدو أكثر خفوتًا عندما ينظر المراقبون إلى الخارج نحو حافة قرص المجرة.

 

ويُعد اتجاه درب التبانة أمرًا بالغ الأهمية لمقارنتها بأوصاف نوت في "كتاب نوت"، ووفقًا لترجمة فون ليفين، فإن رأس نوت يتوافق مع الأفق الغربي، وفمها إلى الغرب، وذراعها اليمنى إلى الشمال الغربي، وذراعها اليسرى إلى الجنوب الشرقي، ومؤخرتها إلى الشرق.

 

وتصف ترجمة فون ليفين لتلك النصوص "نوت" بأن رأسها كالأفق الغربي وذراعيها ممدودتان بزاوية 45 درجة، ويعمل هذا الوصف على محاذاة أذرع نوت مع اتجاه مجرة درب التبانة، إما بشكلٍ متوازٍ أو متعامد وفق الموسم.

 

نتيجة مذهلة

 

خلال فصل الصيف، تمتد مجرة درب التبانة من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، لتمثل جذع نوت، أما في الشتاء، فتنقلب من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي، لتتماشى مع ذراعيها، وتدعم هذه المحاذاة فكرة أن مجرة درب التبانة ترمز إلى جسد نوت في المواسم المختلفة.

 

ويتسق هذا التصوير الموسمي لذراعي نوت وجذعه مع التوجه المتغير لمجرة درب التبانة، وهو أمر قد يعني أن "نوت" ليست سوى تصوير للمَعلم البارز في سماء الأرض.. مجرة درب التبانة.

 

في مقاله المنشور على موقع "ساينتفك أمريكان"، يقول "جراور": أنا عالِم فيزياء فلكية، ولست عالِم مصريات، لكن في أثناء كتابة فصل عن درب التبانة لكتاب جديد عن المجرات، عثرت على صورة نوت وعرضتها على بناتي، لقد انبهرن بقصة إلهة السماء والولادة اليومية للشمس، أدركت أن هناك قوةً ساحرة لهذه القصة وتصويرها البصري، ولكن هل كانت نوت هي مجرة درب التبانة حقًّا؟ أم أن الرابط بين الاثنين لم يكن أكثر من مجرد أمنيات، وهي فكرة مثيرة سُمح لها بالانتشار دون وجود دليل ملموس يثبتها؟ إذا أردت إدراج نوت في كتابي، فقد كان عليَّ أن أعرف ذلك.

 

وعلى الرغم من أنه لا يعتقد أن درب التبانة كانت مظهرًا حرفيًّا لنوت، إلا أنه يقترح أنها تسليط الضوء على جوانب منها، مثل ذراعيها في الشتاء وجذعها في الصيف "تقدم دليلًا دامغًا على وجود صلة ثقافية بين نوت ودرب التبانة، ومع ذلك، لا يزال الدليل القاطع بعيد المنال".

doi:10.1038/nmiddleeast.2024.164