أخبار

أمراض فتّاكة وسترات واقية: هكذا وجدتُ طريقي في حقل الفيروسات

نشرت بتاريخ 11 يونيو 2024

في «مختبر شبيتس» بسويسرا، تدرس هولدا يانسدوختير بعضًا من أشدِّ الفيروسات فتكًا وضراوة.

نيكي فورستر

ترتدي هولدا يانسدوختير سترات واقية، كتلك التي تظهر في الصورة، لدى دراسة الفيروسات القاتلة.
ترتدي هولدا يانسدوختير سترات واقية، كتلك التي تظهر في الصورة، لدى دراسة الفيروسات القاتلة.
Credit: Spiez Laboratory

هناك، في «مختبر شبيتس» Spiez Laboratory بسويسرا، تعكف هولدا يانسدوختير على دراسة بعضٍ من أشدِّ الفيروسات فتكًا وضراوة. فالفيروسات الضارية لا تمثل بالنسبة إليها مصدرًا للقلق أو الخوف، بقدر ما هي مصدر للفضول وحب الاستطلاع. وهي، من موقعها حيث تدير مشروعًا بحثيًا في «مختبر شبيتس»، معتادة على ارتداء بزَّة واقية ضخمة، قابلة للنفخ، تستعين بها على دراسة المطهِّرات والمركَّبات المضادة للفيروسات، عملًا على مكافحة العديد من الفيروسات المميتة، ومنها فيروس «إيبولا»، وفيروس «لاسا». وفي هذا الحوار، تحدَّثت يانسدوختير إلى دورية Nature عن الطريق الذي اختطَّته لنفسها في أبحاث الفيروسات، والسبب الذي دفعها إلى الالتحاق بهذا المختبر الذي تملكه وتموِّله الحكومة السويسرية.

ما سر اهتمامك بالفيروسات الفتّاكة؟

دائمًا ما كانت الفيروسات تثير فضولي ودهشتي؛ لما لها من تأثير هائل في حياة الكائنات الحية، رغم ضآلتها الشديدة. والفيروسات التي تستحوذ على اهتمامي، واهتمام المختبر الذي أعمل به، هي في غالبيتها فيروسات شديدة الإمراض، وتؤدي إلى الوفاة، على شاكلة الفيروسات «إيبولا»، و«لاسا»، و«نورو»، و«نيباه». ولما كانت هذه الفيروسات مميتة، ولا لقاح لها بطبيعة الحال، فإن التعامل معها يقتضي مراعاة اعتبارات الأمان البيولوجي من المستوى الرابع. ولذلك فلا بد لي عند إجراء تجاربي من ارتداء سترة واقية تُنفخ بالهواء حتى تصير ضخمةً حقًا، متصلةٍ بمنفاخ خارج الغرفة.

وبِمَ تنشغلين الآن؟

شرعتُ مع زملائي مؤخرًا في العمل على مشروع يمتد ثلاث سنوات، هدفه تطوير نموذج لاختبار تأثير المضادات الفيروسية في فيروسات «هينيبا» henipaviruses، التي تصيب الجهاز التنفسي، وتسبِّب التهاب الدماغ. كما أنني منشغلة بإجراء دراسات عن مطهِّرات الفيروسات عالية الضراوة. أما في الوقت الراهن، فأبحث مع زملائي في مدى فاعلية الصابون المنزلي كمطهِّر من فيروس «لاسا» المتوطِّن في نيجيريا وبعض بلدان غرب إفريقيا.

كيف وصلتِ إلى هذا المنصب الذي تشغلينه الآن في «مختبر شبيتس»؟

بعد حصولي على درجة الدكتوراه في علم الفيروسات من المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا (ETH) بمدينة زيوريخ في عام 2016، بقيتُ في مختبر الجامعة عامًا واحدًا بوصفي باحثةً في مرحلة ما بعد الدكتوراه. حتى تلك اللحظة، لم أكن متيقِّنةً من رغبتي في الاستمرار في مضمار البحث العلمي. ثم كان أن صادفني إعلان عن فرصة عمل لمدة عامين في قسم السموم التنفُّسية بجامعة بيرن، موجَّهة للباحثين في مرحلة ما بعد الدكتوراه. ورأيتُ أن هذه التجربة من شأنها أن تساعدني على تحديد موقفي: إما أنني قد أصابني السأم من العمل في ميدان العلوم على جملته، أو أنني كنتُ فقط غير راضية عن البيئة التي عملتُ بها لفترة طويلة. وفي بيرن، أدركتُ أنني كنتُ لا أزال شغوفةً بالعلم، وأنني كنت أفتقد البحث العلمي في مجال الفيروسات.

مضى عامان، وصادفني إعلان عن وظيفة موجَّهة لباحثي ما بعد الدكتوراه لدراسة لقاح فيروس «إيبولا». كان المشروع يتطلَّب مراعاة اعتبارات الأمان البيولوجي من المستوى الرابع (BSL-4)؛ وهو أمرٌ طالما راود أحلامي منذ بدأت العمل في مجال الفيروسات التنفُّسية. وعليه، قررتُ التقدُّم للالتحاق بالوظيفة. وقد مرَّت عليَّ هنا إلى الآن خمس سنوات.

كيف يختلف «مختبر شبيتس» عن غيره من المختبرات الأكاديمية؟

نحن مؤسسة حكومية، تتبع المكتب الفيدرالي السويسري للحماية المدنية. وفي قسم البيولوجيا، لدينا تفويض حكومي لدراسة الموضوعات ذات الصلة بالحماية المدنية في سويسرا، وإن كان في وسعنا أن نتناول موضوعاتٍ أخرى كذلك. إنني أعمل على العديد من البحوث التي تفيد المجتمع ككل، مثل السعي إلى إيجاد علاجات مضادة للفيروسات، لمكافحة الأمراض المُعدية. زد على ذلك أننا نتعاون مع المؤسسة العسكرية، تعاونًا يأتي في شكل تدريب الجنود مرتين في العام على حماية المدنيين من الأخطار البيولوجية. وقد رأينا إبَّان جائحة «كوفيد-19» كيف ساعد الجنودُ موظفي «مختبر شبيتس» على إجراء الفحوص التشخيصية للكشف عن المرض.

وفضلًا عن التعاون البحثي، نقدم خدمات تشخيصية بشكلٍ دوري للمستشفيات والأطباء الذين يرسلون عيّنات لفحصها. ومن الأمور المختلفة هنا عن أي مختبر أكاديمي، أن العمل هنا يتطلب تصريحًا أمنيًّا.

كيف أثَّرت جائحة «كوفيد-19» في عملك البحثي؟

بدأت في التعرض لفيروسات كورونا أثناء دراستي لنيل درجة الدكتوراه، ولذلك فعندما حلَّت الجائحة، كنتُ أملك من الخبرة قدرًا لا بأس به. كنت أتلقى تدريبًا على اعتبارات الأمان البيولوجي من المستوى الرابع حين سمعتُ عن «كوفيد-19» لأول مرة. وقد استقبلتُ الخبر حينها بشيءٍ من الإحباط؛ ذلك أنني كنتُ أحرز تقدُّمًا في مسيرتي المهنية، وإذا بي أجد نفسي مرغمة على العودة لدراسة فيروسات كورونا مرةً أخرى. كان عليَّ أن أبحث في كيفية دراسة فيروس «سارس-كوف-2» SARS-CoV-2، وإلا فسوف يُغلق المختبر. وبحلول أواسط عام 2020، كان كثير من الباحثين يتواصلون معي لإجراء اختبارات على أدوية مضادة للفيروسات، وكنتُ أتلقى كذلك اتصالاتٍ من مسؤولين بالمؤسسة العسكرية لإجراء اختبارات مَصْلِيَّة على الجنود. وقد أجريتُ – رفقةَ زملائي – تحليلًا لاستجابات الجنود للفيروس، ووضعنا تقديرًا لعدد الحالات التي لا تظهر عليها أعراض. لفترةٍ من الزمن، كانت الفوضى وغياب النظام غالبَيْن على أبحاث «كوفيد-19»؛ لرغبة الجميع في الوصول إلى نتائج على الفور. ولكن، في المحصلة، كنتُ ممتنَّة أن سنحت لي فرصة الاستمرار في العمل، مهما يكن ضغطه أو كثافته. ولأني مغتربة، فقد مكثتُ بعيدًا عن أسرتي، وكان قاسيًا على نفسي الشعور بالوحدة.

لماذا قررتِ البقاء في سويسرا؟

نشأتُ في أيسلندا، وكانت تراودني دائمًا الرغبة في الدراسة بالخارج. وعندما أتيتُ إلى سويسرا، منذ 12 عامًا، لم يكن في نيتي البقاء بعد الحصول على درجة الدكتوراه. لكنني وجدتُ بعد ذلك أنني أعيش في أماكن جميلة، وأرافق أناسًا رائعين، شعرتُ معهم أنني أتلقَّى الدعم والإلهام.

وبقدر ما يبدو الأمر سطحيًّا، لا أخفي أن العائد المادي كان ضمن حساباتي. والحق أن سويسرا تضع استثماراتٍ معتبرة في ميدان العلوم، وكان من حسن حظي أن شاركتُ في مشروعاتٍ تتلقَّى تمويلًا بالفعل، أو لا يصعُب الحصول لها على تمويل.

على أنني لا أعتقد أن مسألة صعوبة الانتقال إلى دولةٍ أخرى تلقى ما تستحق من الاهتمام في أحاديث من يعيشون هذه التجربة. عندما وطئت قدمي أرض سويسرا لأول مرة، وكان ذلك في مدينة سانت جالن في عام 2012، شعرتُ بالوحشة، لأنني لم أكن أجيد اللغة، ومررتُ بفترة عصيبة حتى صار لي أصدقاء. وفي يناير من عام 2014، انتقلتُ إلى بيرن، التي وجدتُها مكانًا أفضل بكثير، لأنني التقيتُ أناسًا أكثر، من ناحية، ولأنني أحببتُ المدينة نفسها، من ناحية أخرى. كما أنني شاركتُ في فرقةٍ مسرحية تتحدث الإنجليزية، اسمها «كير تيكرز» Caretakers. نعم، والتقيتُ بالعديد من الأشخاص، ومنهم من أصبح أعزَّ أصدقائي الآن. ولا يفوتني هنا أن أعرِّج على مسألةٍ مهمة، يعرفها كل من يغترب للدراسة أو العمل في ميدان العلوم بالخارج، وهي أن الكثيرين من أقرانك يرحلون عندما تنتهي عقودهم، وهكذا يصبح أصدقاؤك متناثرين في شتَّى أصقاع الأرض. أما فرقتي المسرحية فهي تتوفَّر على حظٍّ أوفر من الاستقرار؛ ولذلك صرتُ متعلِّقةً بها إلى أقصى حد.

هل من نصيحةٍ توجهينها إلى الباحثين في مقتبل مسيرتهم البحثية؟

من المهم أن تحصل على قسطٍ وافٍ من الراحة، إذا كنتَ ترغب في الخروج بعمل بحثي جيد حقًا. ستجد أن نظام العمل يدفعك دفعًا إلى العمل بأقصى ما تستطيع من طاقة، لكن لن يمرَّ وقتٌ طويل قبل أن تشعر بالإنهاك. فلو أنَّ لي أن أقدِّم نُصحًا، فنصيحتي أن تدَّخر وقتًا أطول للاستمتاع بالعطلات. وفي سويسرا، لدينا خمسة أسابيع من العطلات، منها أربعة أسابيع عطلات رسمية. ولكن لا يغيب عنِّي أنني موفورة الحظ، أن يُتاح لي التمتُّع بكل هذه العطلات. وأعي أن هذا ليس هو الحال دائمًا؛ وإنما يختلف حسب الوضع الاقتصادي للباحث، وبيئة العمل داخل المختبر، والبلد الذي يعيش فيه.

وواقع الأمر أن الثقافة الأكاديمية عادةً ما تضع ضغوطًا هائلة على كاهل الباحث في مرحلة الدكتوراه وما بعدها. تعصره عصرًا؛ وهو أمرٌ أعارضه بشدة. على المستوى الجماعي، أعتقد أن على الباحثين مقاومة هذه الثقافة والعمل على تغييرها؛ ولتكن البداية بحشد الرأي دعمًا لزيادة أوقات الراحة والعطلات. أما على المستوى الفردي، فحتى إذا لم يُتح لك السفر للتنزُّه أو البقاء بعيدًا عن المختبر لوقت طويل، فلا أقلَّ من أن تجعل بينك وبين عملك مسافة. فإذا كنتَ تعملُ من المنزل في يوم عمل عادي، على سبيل المثال، فلتحرص على أن تغلق حاسوبك في الساعة الخامسة، وأن تضعه جانبًا في غرفةٍ أخرى. فالحفاظ على مساحتك الخاصة، مهما تكن صغيرة، كفيل بأن يساعدك على الإنجاز في العمل بشكل أفضل.

* هذه ترجمة للمقالة الإنجليزية المنشورة بدورية Nature بتاريخ 17 أبريل 2024.

doi:10.1038/nmiddleeast.2024.182